فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (6):

قال الله تعالى: {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)}.
واختلف المفسرون في المراد بالناشئة. فقيل: إنّها من نشأ من مكانه إذا نهض، فتكون الإضافة في {ناشِئَةَ اللَّيْلِ} على معنى في. والمعنى: إن النفس أو النفوس الناشئة في الليل الناهضة من مضاجعها للعبادة {هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا} والوطء المواطأة والموافقة، كالوطاء.
والقيل: القول كالمقال. والمراد به قراءة القرآن، أو مطلق الذّكر، أي إنها أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص.
أو أن قلبها يكون بالليل أشد موافقة للسانها منه في سائر الأوقات، إذ يكون القلب في ساعات الليل حاضرا لا يشغله شاغل، ولا يصرفه عن خشية الله صارف.
{وَأَقْوَمُ قِيلًا} أي إنّ قولها يكون حينئذ أكثر اعتدالا واستقامة على نهج الصواب، لأنّ الأصوات هادئة، والليل ساكن، فلا يضطرب المصلي، ولا يختلط عليه قوله وقراءته.
وقيل: إن المراد بناشئة الليل العبادة فيه، ومعنى أن عبادة الليل أشدّ وطأ: أن موافقتها الإخلاص والخشوع في هذا الوقت أعظم منها في أي وقت آخر. أو أنّ قلب العابد فيها يكون أكثر موافقة للسانه منه في غير ذلك من الأوقات.
وقيل: المراد بناشئة الليل ساعاته، والمعنى عليه كسابقه، ولعلّ أحسن هذه الأقوال أوسطها.
أما موقع هاتين الآيتين مما قبلهما، فقال بعض المفسرين: إن أولاهما معترضة بين الأمر بالقيام وعلتها التي بينتها الآية الثانية، وهي قوله تعالى: {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} وإنّ السر في هذا الاعتراض هو تسهيل أمر القيام بالليل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالموازنة بينه وبين ما سيوحى إليه من أنواع التكاليف وشدائد الأعمال.
ولكنّك ترى أنّه لا حاجة إلى جعل الآية الأولى معترضة بين ما قبلها وما بعدها، فإنّ ارتباطها بما قبلها واضح جدّا، وهي منه في منزلة العلة من المعلول، فكأنّ الله تعالى يقول لنبيه: {قُمِ اللَّيْلَ} وتجرد للعبادة، وأعد نفسك لما سيلقى عليك، لأنّا سنوحي إليك بأمور عظيمة، وسنحمّلك تكاليف ثقيلة تقتضيها طبيعة الرسالة التي اخترناك لها.
ثم إنّ هذا يتضمّن دعوى أنّ العبادة في جوف الليل تعينه صلّى الله عليه وسلّم، وتهيئه لتحمل أعباء الرسالة، والاضطلاع بشؤونها، فتأتي الآية الثانية وهي قوله تعالى: {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} لتعزيز الدعوى. فهي من سابقتها بمنزلة العلة من المعلول.
فكأنّ الله جل شأنه يقول: حقا إنّ قيام الليل يعينك على تحمل ما سنلقيه عليك، لأنّ عبادة الليل أشدّ مواطأة وموافقة للإخلاص والخشوع، وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب.

.تفسير الآية رقم (7):

قال الله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7)}.
السبح في الأصل: الذهاب في الماء، والتقلّب فيه. ويصحّ أن يطلق عن القيد، فيستعمل في مطلق الذهاب والتقلّب. وعلى هذا يكون معنى الآية: إنّ لك في النهار شغلا كثيرا، وتقلبا في أعمال متنوعة لا تستطيع معها أن تقوم في النهار بما يريده منك من تلك العبادات الخاصة، فلذلك كتبناها عليك في الليل، فيكون هذا تيسيرا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبيانا للحكمة في التخفيف عنه، إذ لم يجمع عليه في النهار بين تلك العبادات وبين ما هو موكول إليه من الأعمال.
ويصحّ أن يكون الغرض توكيد أمر القيام عليه، وأنه يجب أن يتفرّغ له بالليل، إذ يكفي أن يكون له من النهار فسحة طويلة يزاول فيها ما شاء من الأعمال. أما الليل فيجب أن يتوفّر فيه على القيام بحقّ الله وعبادته.

.تفسير الآية رقم (8):

قال الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)}.
التبتل: الانقطاع، يقال بتله وبتّله بالتخفيف والتشديد، بتلا وتبتيلا، فانبتل وتبتّل، ومنه البتول للعذراء المنقطعة عن الأزواج، أو المنقطعة للعبادة.
يأمر الله سبحانه وتعالى نبيّه أن يداوم على ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن، فلا يشغله عن ذلك شاغل في ليله ولا نهاره، وأن يجعل همّه كله في إرضاء ربه، ويجرد نفسه عن التعلق بغيره، ويستغرق في مراقبته في كل ما يأتي وما يذر من الأعمال.
وليس المراد أن ينقطع حتى عن أعمال النهار، ويعكف على الذكر والعبادة، فإنّه يتنافى مع قوله تعالى في الآية السابقة: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7)} بل المراد التنبيه إلى أنّه ينبغي ألا يشغله السبح في أعمال النهار عن ذكر الله.
هذا وإنما قيل: {تَبْتِيلًا} ولم يقل: تبتلا، حتى يتفق مع الفعل قبله، مراعاة للفواصل، وللدلالة على أنّ التبتل والانقطاع يحتاج إلى عمل اختياري منه صلّى الله عليه وسلّم، بأن يجرّد نفسه عن التعلق بغير الله تعالى، ويحصر همه في مراقبته جلّ شأنه، فيحصل التبتل الذي هو أثر لذلك. وقد يقال: فلماذا لم يقل: وتبتل إليه تبتيلا حتى يوافق الفعل مصدره؟
والجواب: إنّ ذلك للإشارة إلى أنّ المقصود الأهم إنما هو حصول ذلك الأثر، وهو التبتل.

.تفسير الآية رقم (20):

قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}.
المراد من القيام هو ما تقدّم في أول السورة، وهو صلاة التهجد على ما عرفت. وكلمة {أَدْنى} من الدنو، وهو القرب، فهي في الأصل بمعنى أقرب، تقول: رأيت محمّدا في الدرس أدنى التلاميذ من الأستاذ، أي أنه يجلس في أقرب الأمكنة إليه، لكنّها استعملت في الآية بمعنى الأقل، على طريق المجاز المرسل، لأنه إذا قربت المسافة بين الشيئين كانت الأحيان بينهما قليلة.
قرأ الجمهور: {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بالنصب عطفا على {أَدْنى} لأنّه ظرف أو مفعول فيكون المعنى: إنّ الله قد علم أنّك كنت تقوم من الليل للصلاة على هذه الأوجه، فتارة تقوم أقلّ من ثلثيه، وأخرى تقوم نصفه، وثالثة تقوم ثلثه، وهذه القراءة تدلّ على أنّ عمله صلّى الله عليه وسلّم وعمل الصحابة معه كان وفق المأمور به في أول السورة، فإنّه إذا قام أقلّ من الثلثين فقد حقّق الزيادة على النصف، وإذا قام الثلث، فقد صدق أنّه نقص عن النصف قليلا. والنصف مطابق للنصف.
وحينئذ لا تكون هناك مخالفة، لا بطريق الاختيار، ولا بطريق الاضطرار. ويكون التخفيف عنهم بسبب أنّهم- كما علم الله- لا يطيقون المواظبة على القيام بالمأمور به، إذ لا يمكنهم تقدير الليل، ولا يستطيعون ضبط ساعاته، فإذا حرصوا على الوفاء بالمطلوب اضطروا أن يأخذوا بأكبر المقادير وأوسعها، وفي ذلك مشقة زائدة.
وقرأ نافع: {نِصْفَهُ وثُلُثَهُ} بالجر، عطفا على (ثلثيه) فيكون المعنى: إنّ الله علم أنك تقوم أقل من الثلثين مرّة، وأقلّ من النصف مرّة، وأقلّ من الثلث مرّة ثالثة.
وظاهر أنّ ما دون الثلث لا يوافق المأمور به في أول السورة، وهو أن ينقص من النصف مقدار قليل، فإنّه لم يجر عرف الكلام أن يقال لما دون الثلث- في معرض التقدير بمثل هذه المقادير- إنه أقل من النصف، كما لا يقال لأمر حدث قبيل طلوع الفجر مثلا: إنه حصل بعد العشاء.
على أنّ ما دون الثلث قد جاء في الآية التي معنا مقابلا لما دون النصف، إذ الأحوال الثلاثة هي: القيام أقل من الثلثين، وأقل من النصف، وأقل من الثلث، فيتعين أن يكون قيام ما دون الثلث شيئا غير قيام ما دون النصف وحينئذ لم يأت عملهم في جميع الحالات موافقا للأمر في أول السورة، إذ قيام ما دون الثلث لا يكون امتثالا للأمر بقيام النصف إلا القليل. لكنّ ذلك لما لم يكن عن اختيار وقصد، بل كان عن محض الضرورة، بسبب أنهم لم يمكنهم ضبط مقادير الزمان مع عذر النوم لم يكن إثما، وانتفت فيه المؤاخذة، وعلى هذا يكون التخفيف عنهم بسبب هذه الضرورة، وهي عدم قدرتهم على إحصاء الوقت وضبط ساعات الليل.
وبعد فلا تناقض بين القراءتين، فإنّ الآية ليست حديثا عما أمروا به من القيام، بل هي إخبار عن الواقع الذي كان يحصل منهم. وهم كانوا أحيانا يقومون ثلث الليل، ويقومون نصفه، ويقومون قريبا من ثلثيه، وأحيانا يقومون أقلّ من ثلثه، وأقلّ من نصفه، ظنا منهم أنهم وفوا في قيامهم أقلّ من الثلث بالقدر المأمور به، لعدم ضبط الزمن، وتحديد مقاديره. فقراءة النصب توافق الحالات الأولى، وقراءة الجرّ تنزّل على الحالات الثانية.
{وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} وهذا معطوف على الضمير المستكنّ في {تَقُومُ} وهو وإن كان ضمير رفع متصل، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف، والمعنى: أنّ الله يعلم أنّه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك، واتبعوا هداك.
وقد يقال: إنّ هذا يدلّ على أنّ قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة، وهو خلاف ما تقرّر تفسيره في أول السورة، ويخالف أيضا ما دلّت عليه الآثار المتقدمة هناك.
والجواب: أنه ليس في الآية ما يفيد أنّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا جميعا يصلّون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة التهجد في جماعة واحدة، فلعلّ بعضهم كان يقيمها في بيته. فلا ينافي ذلك فرضية القيام على الجميع.
{وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} الكلام هنا على الحصر والاختصاص، أي أنّ الله هو وحده الذي يقدّر الليل والنهار، يعلم مقاديرهما وأجزاءهما، وما مضى من كلّ، وما بقي على التعيين والتحديد.
وهذا الاختصاص- على ما يقول الزمخشري- مستفاد من تقديم اسم الجلالة مبتدأ، وبناء الفعل عليه.
أما غير الزمخشري فإنه ينكر عليه مذهبه هذا في الاختصاص، إذ إنّه إذا قيل: محمد يحفظ الدرس، أو يتفقه على فلان، لم يفد ذلك أنه هو وحده الذي يحفظ ويتفقه. فالحصر في الآية مستفاد من سياق الكلام ودلالة المقام.
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ} إحصاء الأشياء عدّها، والإحاطة بمقدارها، ويصحّ أن يستعمل في القدرة على الفعل وإطاقته، وكلّ من المعنيين سائغ في الآية.
فعلى الأول: يكون الضمير المفعول في {تُحْصُوهُ} عائدا على مصدر مفهوم من {يُقَدِّرُ} في الجملة السابقة.
والمعنى عليه: علم الله أنكم لم تحصوا تقدير الليل والنهار، ولن تستطيعوا ضبط ساعاتهما، ولا معرفة ما فات من ذلك على التحديد، ولا ما هو آت، وأنكم إذا أخذتم دائما بالأحوط ضعفتم، وشقّ عليكم الأمر، ولذلك خفف الله عنكم في أمر القيام، ورفع عنكم المقدار المحدد، ورخّص لكم أن تقوموا مقدارا ما من الليل غير مقيّد بثلث ولا بغيره.
وعلى الثاني: يكون الضمير عائدا على القيام المفهوم من {تَقُومُ}.
والمعنى عليه: علم الله أنكم لن تحصوا قيام الليل، أي لن تطيقوه، ولن تستطيعوا المواظبة عليه مقدّرا بذلك المقدار، ولذلك خفف عنكم.
{فَتابَ عَلَيْكُمْ} التوبة في الأصل معناها العود والرجوع. يقال: تاب العاصي إذا رجع إلى سبيل الطاعة، ويقال: تاب الله عليه، بمعنى عفا عنه، وعاد عليه بالمغفرة، فالتوبة في قوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} يصحّ أن تكون بمعنى المغفرة، أي غفر لكم ما كان عساه يفضي إلى مؤاخذتكم من عدم الوفاء بما أمرتم به، إذ كنتم تقومون في بعض الأحوال أقل من ثلث الليل، مع أنكم مأمورون أن تقوموا نصفه على الأقل، لا تنقصون منه إلا قليلا.
وهذا- كما ترى- إنما يظهر على قراءة نافع ومن وافقه بجر (نصفه) و(ثلثه). أما على قراءة النصب فيكون معنى {فَتابَ عَلَيْكُمْ} عاد عليكم بالترخيص والتخفيف، ورجع بكم من عسر إلى يسر، ومن شدة إلى لين، وليس هو من التوبة بمعنى المغفرة.
{فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} للعلماء في المراد بالقراءة هنا ثلاثة أقوال:
الأول:- قول من حمل القراءة على ظاهرها، وقال: إن صلاة التهجد قد نسخت بهذا الأمر وصار المطلوب قراءة شيء من القرآن. ثم من هؤلاء من قال: إنّ الأمر بالقراءة للوجوب، ومنهم من حمله على الندب.
القول الثاني: أن المراد بالقراءة الصلاة، عبّر عنها لأنّها من أركانها، كما يعبّر عنها بالقيام والركوع والسجود، فيكون معنى: {فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} صلوا ما تيسر لكم من الصلاة.
ويشهد لذلك سياق الآية، وما سبق من الآثار التي تدل على أنّ آخر السورة نسخ أولها، فصار الواجب قيام جزء ما من الليل، ثم نسخ ذلك بفرض المكتوبات الخمس.
القول الثالث:- أن المراد قراءة القرآن في الصلاة عملا بدلالة اللفظ مع شهادة السياق وتلك الآثار.
وقد تعلّق بعض الفقهاء بهذه الجملة: {فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} يستدلون بها على أن المفروض من القراءة في الصلاة ليس سورة معينة، بل ما يطلق عليه اسم القراءة من أي سورة.
وقبل أن نشرح وجه الدلالة على ذلك، يلزم أن ننبهك إلى أنّ الاستدلال بها لا يستقيم على الوجه الأول من التفسير، فإنّ المراد بالقراءة على هذا الوجه حقيقة التلاوة خارج الصلاة، فلا تعلق لذلك بالموضوع.
وكذلك لا يستقيم على الوجه الثاني فإنّ القراءة عليه لم يرد بها معناها الحقيقي، بل هي مجاز عن الصلاة كما عرفت، فالتمسك بها إنما يستقيم على الوجه الثالث.
وذلك أنّه- بعد اتفاق الأئمة على أنّ القراءة في الصلاة من فرائضها- يقول الحنفية: إنّ الفرض مطلق قراءة آية أو ثلاث آيات- على اختلاف القولين بين الإمام وصاحبيه- من أيّ سورة من القرآن، وأنّ الفاتحة غير متعينة للفرضية، فإذا صلّى بها أو بغيرها فقد حصل ركن القراءة. وذلك لأنّ قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أمر بمطلق القراءة من غير تقييد بفاتحة ولا بغيرها، ومقتضى هذا الأمر وجوب تحصيل المطلق في أي فرد من أفراده.
قالوا: ويشهد لذلك:
1- ما في الصحيحين عن أبي هريرة أنّ رجلا دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبيّ عليه الصلاة والسلام، فردّ عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ، فصلّى، ثم جاء فأمره بالرجوع، فعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره. فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبّر، ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنّ راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن قائما، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها».
علمه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيفية الصلاة، وبين له أركانها وشرائطها، ولم يعيّن عليه في ذلك قراءة الفاتحة، بل قال له: «اقرأ ما تيسر معك من القرآن».
فلو كانت الفاتحة بخصوصها ركنا لعيّنها له، وعلمه إياها إن كان يجهلها، أو وكل به من يعلمه ذلك.
2- وما روى أبو داود عن أبي هريرة من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب».
فإنّه ظاهر في عدم تعيين الفاتحة.
3- أما غير الحنفية فإنّهم يقولون: إنّ قراءة الفاتحة على التعيين فرض لا تجزئ الصلاة بتركها، أو بترك حرف منها، ويقولون: إن الآية- وإن كانت مطلقة- قد قيدتها الأحاديث الصحيحة التي تدلّ على أنّ خصوص الفاتحة ركن. فمن ذلك:
1- ما رواه السبعة عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
قال: النفي هنا يدلّ على انعدام الصلاة الشرعية، لعدم القراءة فيها بالفاتحة، ولا يكون عدم قراءة الفاتحة موجبا لانعدام الصلاة إلا إذا كانت الفاتحة من فرائضها.
قالوا: ولا يرد على هذا الدليل أنّه مشترك الدلالة وأنّه كما يصحّ أن يقدّر فيه متعلق الجار والمجرور الصحة حتى يكون المعنى: لا صلاة صحيحة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، كذلك يصحّ تقديره بالكمال، فيكون المعنى: لا صلاة كاملة إلخ ومثل هذا لا يصح به الاستدلال.
قالوا: لا يرد هذا: لأن الأصل في مثل هذا المتعلق أن يقدّر كونا عاما، لعدم القرينة الدالة على الخصوص. فالمعنى: لا صلاة كائنة أو موجودة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وعدم الوجود شرعا هو عدم الصحة، بل أقوى منه. ولو سلّم أنّه كون خاص، فتقدير الصحة أولى، لأن النفي متوجه في لفظ الحديث إلى ذات الصلاة، وإذا كانت الذوات لا يصحّ أن يتوجه عليها النفي، لأنّه من خواص النسب، وتعذّر بذلك حمل اللفظ على حقيقته كان الحمل على أقرب المجاورين أولى، وذلك بتقدير الصحة، فإنّ ما ليس بصحيح أقرب إلى المعدوم مما ليس بكامل.
2- وما رواه الدارقطني عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
فإنّ عدم الإجزاء ظاهر جدا في عدم الصحة.
3- وما رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج».
الخداج بالكسر: النقصان مأخوذ من خداج الناقة، وهو إلقاؤها ولدها قبل أوانه.
4- عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإنّه عليه الصلاة والسلام قد واظب على قراءة الفاتحة في كل صلاة من غير ترك، فلولا أنّها ركن لتركها ولو مرة تعليما وتشريعا.
هذه أدلة الفريقين تجدها في ظاهرها متعارضة، فكان لابدّ من النظر فيها.
وينبغي أن تعلم أولا: أنه لا سبيل إلى دعوى النسخ في شيء من تلك الأحاديث المتعارضة، لأنه لم يوقف فيها على تمييز السابق من اللاحق، فلابدّ إذا من أحد أمرين: إما الجمع بينهما، وإما ترجيح بعضها على بعض. على أنه متى أمكن أن يجمع بينها فلا ينبغي العدول عنه.
واعلم أيضا أنه لا مجال للمناقشة في أنّ قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} من قبيل المطلق، وأنّ من يجادل في هذا فهو يحاول أن يلوي الأساليب العربية عن استقامتها. كما أنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل المسيء صلاته: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» من قبيل المطلق أيضا.
وعلى هذا أجاب الحنفية عما استدل به مخالفوهم من الشافعية وغيرهم بما يأتي:
قالوا على الدليل الرابع: إنّ عمل النبي صلّى الله عليه وسلّم ومواظبته على قراءة الفاتحة من غير ترك لا يدل على الفرضية، فإنّه عليه الصلاة والسلام كما كان يواظب على الفرائض، كان يواظب على الواجبات التي هي أدنى منها، وليس ترك الواجب في بعض الأحيان طريقا متعينا للتمييز بينه وبين الفرض، فإنّ التمييز كما يكون بالفعل يكون بالقول، كأن يقول لهم: إن ترك هذا لا يبطل الصلاة، ولكن لا يجوز أن تتركوه.
وأجابوا عن حديث أبي هريرة- وهو الدليل الثالث- بأنّ النقصان أعمّ من الفساد، فقد تكون الصلاة ناقصة مع الصحة بأن تكون مستجمعة شروطها وفرائضها وتخلّف شيء من الواجبات، أو السنن فيها فلضرورة الجمع بين الأدلة المتعارضة يحمل النقصان على غير الفاحش الذي يفسد الصلاة، وهو محمل غير بعيد.
وأجابوا عن الدليل الثاني: وهو ما رواه الدارقطني عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» بأنّ رواية الجماعة عنه أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» أرجح من تلك الرواية، لأنه لا شك أنّ ما اتفق عليه الجماعة أصحّ مما تفرّد به غيرهم ولأنّ كلتا الروايتين- وإن كانت معارضة بظاهرها لإطلاق القرآن- فأقرب الروايتين إليه رواية الجماعة، وأيضا فإنّه يصحّ أن تكون رواية الدارقطني بالمعنى وأنّ الراوي فهم من «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» عدم الإجزاء. فعبّر بلفظ: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
فلم يبق إلا أن يجمع بين هذه وبين قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}.
وذلك أن الرواية على كل حال حديث آحاد لا تناهض القرآن، ولا تقوى على نسخه، فلو حملنا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
على نفي الصحة لزم أن يكون قاضيا على الكتاب، ناسخا لحكمه، لأنّ مقتضى الكتاب صحة الصلاة بكل قراءة، ولو بغير فاتحة الكتاب، ومقتضى الحديث على ذلك المحمل عدم صحتها، إلا أن يقرأ فيها بالفاتحة، وإذا كان الشافعي رحمه الله لا يرى نسخ الكتاب حتى بالحديث المتواتر، كما نصّ على ذلك في الرسالة فيلزم ألا يجيز نسخه برواية الآحاد من باب أولى.
وإذا كانت العبرة في الأمور بمعانيها وحقائقها، لا بأسمائها وألقابها فتغيير حكم الآية بذلك الحديث- على النحو الذي يقول به الشافعية ومن وافقهم- تغيير لا يختلف في شيء عن تغيير النسخ وسمّه بعد ذلك بما شئت.
وعلى هذا ينبغي أن يحمل الحديث على نفي الكمال، بدليل نصّ الكتاب، وما جاء في حديث المسيء صلاته، ويكون قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
نظير قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد».
وقوله: «لا صلاة للعبد الآبق».
فإنّ القرينة الدالة على أنّ المراد نفي الكمال متحققة في الجميع، وعلى هذا يتم العمل بالقرآن والحديث، إذ يكون الأول مفيدا أنّ مطلق القراءة فرض في الصلاة.
والثاني يفيد أنّ قراءة الفاتحة من الواجبات التي هي دون الفرائض.
وبعد فالعلماء مختلفون أيضا في محلّ القراءة المفروضة:
فالحنفية القائلون بأن الفرض مطلق القراءة يقولون: إنها فرض في ركعتين من الصلوات الرباعية.
أمّا القائلون بأنّ الفرض خصوص الفاتحة، فمنهم من يقول بفرضيتها في كل ركعة من الصلاة كما هو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك.
ومنهم من يقول بفرضيتها في ركعتين كما هي الرواية الأخرى.
ولا نرى أن نعرض هنا لهذه التفاصيل، ومآخذ الأئمة فيها، فإنّ مرجع ذلك كله الحديث وكتب الفروع.
{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
الضرب في الأرض: السير فيها، والسفر للتجارة والتعيش.
{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى} قال بعض المفسرين: هذه الجملة مستأنفة لبيان حكمة أخرى لتخفيف قيام الليل بعد الحكمة الأولى، وهي عدم القدرة على إحصاء الوقت وتقدير ساعاته، أي علم أنه سيكون منكم مرضى إلخ كما علم عسر تقدير الأوقات عليكم. ولكنّك ترى أنه كان الظاهر على هذا أن يؤتى بالجملة الثانية {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى}. موصولة بالأولى غير مفصولة.
وظاهر كلام الإمام الرازي أن قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى} هو الذي يبيّن حكمة النسخ، وأنه جواب لسؤال تقديري، فكأنه قيل: لم نسخ الله ذلك؟
فقال: لأنه علم تعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض والمجاهدين في سبيل الله.
وهذا التوجيه يدل على أنّ قوله تعالى فيما سبق {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} لا مدخل له في النسخ والتخفيف، مع أنّ صريح الآية يخالفه، إذ قد رتب عليه الترخيص بالفاء الدالة على التسبب، وذلك هو قوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}.
فالظاهر أنّ قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى} قد جاء مجيء التفصيل بعد الإجمال، فحكمة النسخ واحدة: هي رفع المشقة المترتبة على وجوب القيام الطويل في الليل. أجملت هذه الحكمة في قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} ثم فصلت في قوله جلّ شأنه: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى} إلخ. فليست هذه لبيان حكمة ثانية للنسخ كما أنها ليست مستقلة بالبيان عن ذلك الإجمال.
بيّن الله تعالى بذلك ثلاثة أشياء، كلها مقتض للتخفيف على الناس في قيام الليل:
الأول: المرض. فالمريض يصعب عليه طول التهجد، فإنّ السهر الكثير قد يضاعف علته ويزيد آلامه.
الثاني: الضرب في الأرض للتجارة.
والثالث: الجهاد في سبيل الله.
فإنّ الضاربين للتجارة وابتغاء الرزق، والمجاهدين في سبيل الله مشتغلون في نهارهم بتلك الأعمال الشديدة، فلو لم يناموا في الليل نوما يستعيدون به ما فقدوه من قوتهم لضعفوا، وكلّوا، وانقطعوا عن كثير من جلائل الأعمال.
قال المفسرون: إنّ في قرن الضرب في الأرض للتجارة بالجهاد في سبيل الله إشارة إلى أنّ الساعين في معايشهم يقاربون في الأجر المجاهدين.
روى البيهقي وسعيد بن منصور عن عمر رضي الله عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحبّ إليّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله تعالى، وتلا هذه الآية: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} إلخ.
وعن ابن مسعود أنه قال: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء، ثم قرأ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ}.
{فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} أعيد هنا هذا الأمر لتوكيد الرخصة وتقديرها، وليعطف عليه ما بعده من بقية الأوامر.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} اختلف المفسرون في المراد بالصلاة والزكاة هنا، فمنهم من حمل الصلاة على المكتوبات الخمس، والزكاة على زكاة الفطر، قال: لأن الآية مكية، وزكاة المال لم تفرض إلا في المدينة.
وهذا القول مردود من وجهين:
الأول: أنّ زكاة الفطر لم تجب إلا بعد الهجرة.
الثاني: أنّ الراجح في زكاة المال أنّها فرضت في مكة. غير أنه لم يعيّن فيها نصاب خاصّ، ولم تحدد الأنواع التي تجب فيها الزكاة ولا القدر الواجب صرفه للفقراء، إلا في المدينة، فكان الواجب أول الأمر أن يصرف للفقير شيء ما من المال، ويدل لذلك أنّ الزكاة وردت في آيات كثيرة مكية، كما في صدر سورة المؤمنون.
على أنّ هذا التفسير لا يتم في الصلاة إلا على القول بأنّ هذه الآية قد تأخّر نزولها عن صدر السورة بعشر سنين أو أكثر، حتى فرضت المكتوبات ليلة المعراج.
وبعضهم: حمل الصلاة على المكتوبات أيضا والزكاة على زكاة المال، وفهم كذلك أنّ زكاة المال فرضت في المدينة، فالتزم القول بأنّ هذه الآية مدنية.
وهو مردود أيضا بما سبق، وبأنّ الراجح- كما علمت أول الكلام على صدر سورة المزمل- أنّ هذه السورة برمتها مكية.
وبعضهم حمل كلّا من الصلاة والزكاة على التطوع قال: لأنّ سورة المزمل من أوائل ما نزل من القرآن، والمكتوبات الخمس لم تفرض إلا ليلة المعراج في السنة الثانية عشرة من البعثة، وقال في الزكاة ما قاله صاحب الوجه الأول.
والحق الذي يتمشّى مع الراجح في تاريخ شرعية الزكاة، ويتفق مع ما تقدم لك عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما من أنّ آخر سورة المزمل قد نزل بعد صدرها بحول، أو قريب من الحول، هو أنّ الأمر في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} على ظاهره مفيد للوجوب، وتحمل الصلاة على ما كان مفروضا في النهار أول الأمر:
(ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي) وتحمل الزكاة على المفروضة أيضا، وهي زكاة المال التي فرضت في السنة الخامسة من البعثة، على ما هو الراجح، وبذلك يتمّ القول، ولا يكون هناك إشكال.
{وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} في القاموس: والقرض (بالفتح) ويكسر: ما سلّفت من إساءة أو إحسان، وما تعطيه لتقضاه. وفيه أيضا: وأقرضه: أعطاه قرضا.
وحينئذ يكون الكلام من باب المجاز، إذ المراد من إقراض الله إعطاء الفقراء والمساكين ما يعينهم، ويسد خلّتهم، فاستعمل فيه اللفظ الذي يدلّ على إعطاء الله جلّ وعلا، وعبّر فيه بالإقراض، للدلالة على أنّ ثوابه مضمون، وجزاءه لا شكّ في تحققه، كما أنّ القرض لصاحبه لا شكّ في حصوله إذا كان المستقرض وفيا كريما.
قال بعض المفسرين: إن المراد بالقرض الصدقات المندوبة أمر بها الأمر بالزكاة المفروضة، إذ العطف يقتضي المغايرة.
وحمله بعض آخر على نفس الزكاة السابقة، وقال: إنّ حكمة العطف إرادة الحث والتشجيع على أداء الزكاة من حيث إنها معتبرة كالقرض، لا يضيع معروفها، ولا ينقص شيء من ثوابها، وإنّ معنى {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} أدوا الزكاة المفروضة عليكم على أحسن الوجوه، بأن تختاروها من أطيب الأموال وأنفعها للفقراء، وتخلصوا في ذلك النية، وترجوا به مرضاة الله. ولعلّ الوجه الأول هو الأرجح.
{وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً}.
{خَيْراً} هو المفعول الثاني لتجدوا، والضمير المنفصل توكيد للمفعول الأول، وهو- وإن كان ضمير رفع- قد وقع موقع ضمير النصب. ويصحّ أن يكون ضمير فصل.
المعنى: أنّ أيّ عمل تقدمونه في الدنيا، تبتغون به منفعتكم في الآخرة، سواء أكان متعلقا بالمال، أم بغيره، فإنكم تلقون به عند الله جزاء أحسن منه وأكثر نفعا.
وفسر ابن عباس المفضّل عليه بالوصية، فقد روي عنه أنه يقول: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت.
وقيل: إن المراد أنه خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، إذ الفرق عظيم بين المتاع الدنيوي والنعيم الجزيل الأخروي.
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله ما منّا من أحد إلا ماله أحبّ إليه! قال: «إنما ماله ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر».
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ختم الله جلّ شأنه القول بطلب الاستغفار مما عسى أن يقع في الأعمال من الخلل أو التقصير، ووعد سبحانه بالرحمة والمغفرة لمن يلجأ إلى جنابه الكريم، إذ أخبر بأنّه عظيم المغفرة واسع الرحمة.
تم الكتاب بعونه تعالى.